البيانات الضخمة (BIG
DATA) وأثرها في الفقه الإسلامي: دراسة أولية
إعداد:
الأستاذ المشارك الدكتور إروان بن محمد صبري
مدير،
مجمع الفتاوى العالمية للإدارة والبحوث، جامعة العلوم الإسلامية الماليزية.
الدكتور عبد المولى خبليل
باحث،
مجمع الفتاوى العالمية للإدارة والبحوث، جامعة العلوم الإسلامية الماليزية.
مقدمة
الحمد لله الذي أتم رسالة الإسلام وأكمل نزولها، فبرزت أسس الأمة الخاتمة،
والصلاة والسلام على من جسَّد نموذجاً فريداً تُستلهم أسباب النهوض الحضاري، وعلى
من سار على نهجه واتبع منهجه ... وبعدُ:
فقد ظهر مصطلح البيانات الضخمة ليصف نموذجًا جديدًا من تطبيقات البيانات
التقنية، وشاع هذا المصطلح بشكل كبير بين سنتي 2011م و2014م، وتزايد الاهتمام بهذه
التقنية البيانية في السنوات الخمس الأخيرة (سلطان، أبو بكر.
2017). والبيانات الضخمة هي مجموعة من البيانات المعقدة التي يصعب
معالجتها باستخدام أداة واحدة أو تطبيق واحد من تطبيقات معالجة البيانات التقليدية.
والتعريف الآخر للبيانات
الضخمة : هي مجموعة
هائلة وضخمة جدًا من البيانات في أشكالها المختلفة من كلمات وصور ورسائل صوتية
وغيرها، وأن حجم البيانات في العالم الرقمي وصل إلى 4.4 زيتابايت (4.4 تريليون
جيجابايت) في عام 2013، ومتوقع أن يصل حجم هذه البيانات إلى 44 زيتابايت في عام
2020، وسيصل حجمها إلى ما يقرب من 180 زيتابايت بحلول عام 2025 طبقا لدراسة أجرتها مؤسسة البيانات الدولية (International
Data Corporation) الصادر بعام 2014 (https://www.ida2at.com/what-is-big-data/).
فهي مصدر المعرفة
المستقبلية الأول -وبلا منازع-، ومفهوم البيانات الضخمة يقوم على أربعة أسس هي:
i.
الحَجم.
ii.
والسرعة.
iii.
والتنوع.
iv.
والقيمة (سيليا لوتر باخر.
2017).
فهي كبيرة السعة، ذات سرعة هائلة، متنوعة
المجالات، عالية القيمة العلمية والعملية، فتدخل مجموعات البيانات الضخمة في جل علوم الحياة.
فأثرها كبير على العلوم البيولوجية
والبيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والعلوم الشرعية وغيرها،
وعلم الفقه كغيره من العلوم المتفرعة عن علوم الشريعة تأثر هو الآخر بهذه الثورة
العلمية في مجال البيانات الضخمة. وإن كان استخدام البيانات الضخمة في
مراحله الأولية في كل القطاعات، إلا أن الجانب الفقهي لا بد أن يحظى كذلك
بالاهتمام أسوة بغيره من القطاعات الأخرى كالتسويق والإعلام والطب والحاسوب وغيرها.
بل
إن الفقه هو المجال المحوري الذي ترجع إليه وتتحرك عليه بقية المجالات، لما له من
أهمية مرجعية عظيمة تتمثل في مصادر التشريع وي مقدمتها القرآن الكريم والسنة
النبوية والإجماع والقياس، وباقي المصدر الأخرى.
فلا مناص من الاستفادة من البيانات الضخمة وإدراك أثرها في المجال الفقهي الذي
تحوم عليه باقي المجالات الحياتية الأخرى (السميطي،
جمال حسين. 2016).
ومن هذه الآثار
جاءت الأسباب التي جعلت الباحث يخوض في هذا المجال الجديد ببياناته من حيث طرق
تجميعها والطريقة الفاعلة لتحليلها والاستفادة منها. ومن هذه الأسباب؛ خطورة هذه
البيانات على البشرية وأثرها الكبير على الحياة العامة والخاصة، ثم صعوبة التعامل
مع هذه البيانات الضخمة من خلال الإمكانيات المتوفرة الحالية، نظرًا لقدراتها
التطبيقية التقليدية المحدودة جداً في معالجة هذه البيانات الضخمة وتحليلها في
النطاق الخاص بها، كالاستخدام التقليدي الحالي لتحميلات الغيغا بايت، في الوقت
الذي يحتاج تحميل هذه البيانات لعشرات أو مئات التيرابايت أو الزيتا بايت، أو
الأكثر تحميلًا منهما.
وعلى
سبيل التمثيل فقد نمت قدرة الحواسيب العامة بمعدل
سنوي يقدر بنسبة (58%)، كما ارتفعت القدرة
على القيام بالاتصالات الثنائية الاتجاه بنسبة (82%) سنوياً، وازدادت المعلومات المخزنة عالمياً بنسبة
(23%)، وسيطرت التقنية الرقمية على منظومة الاتصالات في سنة 2007م بنسبة (99%)، والجدير بالذكر في
هذا السياق أن كمية البيانات الرقمية المنتجة خلال السنوات المقبلة ستتجاوز 40 زيتا بايت (السميطي، جمال حسين. 2016).
وانطلاقاً
من مبدأ: "من يمتلك المعلومة يمتلك القوة"، تمخضت أهم أسباب البحث في
هذا الموضوع. فالعالم الحديث كله معلومات وهذه من
أهم مقومات القوة والنهضة لأي أمة، وفي عصرنا هذا تكمن هذه القدرة في تجميع البيانات
الضخمة، وتخزين كميات كبيرة من المعلومات الرقمية عن الأفراد والجماعات، وهي تمس الجوانب
الحياتية المتصلة بنا مباشرة، فهي وثيقة الصلة بنا من حيث الشخصية والكرامة الإنسانية
في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (سورة
الإسراء. الآية: 70).
فإن
تكريم الله للإنسان وتفضيله على خلقه الآخرين لم يكن إلا لقصد إلهيٍ بعيد المدى،
إنه تهيئة الإنسان ليكون قادراً على النمو الروحي والاجتماعي ومستعداً للترقي
والتطور، ومن تمام تكريم الله للإنسان أن وهبه قدرة تمكنه من التسلط على ما في
الأرض، بالإضافة إلى التكريم التصويري والنفسي والعقلي في كل شؤون الحياة (التفسير
الوسيط للقرآن الكريم. 1993). ولقد
بانت أهمية هذا البحث من خلال وسائل الاتصال الاجتماعية التي أدمن البشر استخدامها.
ومن
خلال تلك البيانات الضخمة التي تتكون من ذلك الاستخدام المتردد على المواقع
الإلكترونية المتنوعة، حيث يقوم مشرفو هذه المواقع برصد وتحليل تلك البيانات
وتوظيفها لمصلحتهم عن طريق التعرف على اتجاهاتنا وسلوكنا ورغباتنا (السميطي، جمال حسين. 2016). فالتحدي الذي يواجه المستخدمين
لتلك الوسائل هو كيفية الحفاظ على حرية مَنح أو حَجْب الوصول إلى بياناتنا الخاصة
بنا، فبمجرد تقديم البيانات الخاصة بنا فلا يمكن استرجاعها ثانية قط (سيليا لوتر باخر. 2017).
وهذا في حد ذاته مشكلة، ناهيك عن المخاطرة الناتجة عنها،
ويجاري هذا كله تردي قيمة الأمانة وضياعها، وعدِّ قيم العفة والوفاء علامات للتخلف،
وهذه المعطيات تُنبئ بالهلاك في الدنيا، لأن جل هلاك الأولين ناجم عن الانحلال
الخـَّلقي الحسي المنعكس عن التردَّي الخـُّلقي.
تطبيقات فقهية
للبيانات الضخمة
وفي هذا البحث سيتعرض الباحث لموضوعين -على سبيل المثال- يتعلقان بالجانب الفقهي
والخلقي، ومدى تأثرهما بهذه البيانات الضخمة، وذلك في مسألتين:
المسألة الأولى
تتضمن قضية الصورة المتحركة كبينة تقدم للمحاكمة بغرض الإثبات، حيث سيدرجها الباحث
تحت الأحكام الفقهية الخاصة بانتحال الشخصية لدى مستخدمها، وإن لم يتقمصها
شخصياً، ولكنه تقمصها عملياً بصورة تكاد تكون حقيقةً، فهذه المسألة تنطوي قوله: ﴿وَلَا
تَجَسَّسُوا﴾
(سورة
الحجرات. الآية: 46)، وقوله صلى الله عليه
وسلم: }أَلاَ
أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا
فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْلُ
الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا، حَتَّى قُلْتُ: لاَ
يَسْكُتُ} (صحيح البخاري.
باب: عقوق الوالدين من الكبائر)،
وكذلك تندرج تحت الغش، في قوله صلى الله عليه وسلم: }مَنْ
حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} (صحيح مسلم. باب قول النبي صلى
الله عليه وسلم: {من غشنا
فليس منا}).
إن
انتحال الشخصية يعني الظهور بمظهر ما، أو أن
يُظهر شخص ما أمام الغير مظهراً شخصًا ما تم فيه انتحال لشخصيته، بحيث يعتقد
الناظر إليه اعتقاداً لا شك فيه أنه يتعامل معه مباشرة (من تم انتحال شخصيته). فيمكن
بوسائل التقنية الحديثة أن تظهر المرأة بصورة الرجل، وأن تظهر الصورة الثابتة
بمقطع متحرك مُستخرج من مجموعات البيانات الضخمة، وأقل ما يمكن أن يُحكم على
انتحال الشخصية أنه يخالف الواقع.
وهنا يندرج تحت الكذب المحرم باتفاق، ومن منحى آخر هل يمكن
باستخدام البيانات الضخمة المتوفرة إثبات عكس ما ادعاه المدعي ومدى انعكاس ذلك على
الحكم الفقهي الصادر، فانتحال هوية الغير أو شخصيته هو صورة من صور التزوير
المعنوي فضلاً عن الحسي، والتي لها تكييفها الفقهي والقانون.
وسينبني
البحث في مسألة الصورة المتحركة كبينة تقدم
للمحاكمة بغرض الإثبات على قاعدة: "البينة على من ادعى، واليمين على
من أنكر"، والمنبثقة من قضية الأشعث بن قيس، وذلك من خلال قوله صلى الله عليه
وسلم له: }بَيِّنَتُكَ
أَوْ يَمِينُهُ، قال: فَقُلْتُ: إِذًا يَحْلِف يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ،
يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ
وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ} (صحيح
مسلم. باب {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم}.
المسألة الثانية
من المسائل التي سيتناولها الباحث قضية الذكاء الإلكتروني،
والذي سيمثل به هذه المسألة هو ما يسمى بــ"الروبوت" (الإنسان
الآلي الذي يملك الذكاء الاصطناعي)، وأثر ذلك
على الفقه الإسلامي من حيث كيفية تكييف هذه المسألة داخل أحكامه. فالإشكالية المنبثقة
عنها كامنة في كون المتقمص لهذه الآلة، هل هو ذكر أو أنثى وما يترتب عليهما من
أحكام فقهية، كحكم الزواج منه ومجامعته من قِبل الإنسان.
وهل يُعد هذا زنا أم لا؟ وهل
هو من الخنثى
المشكل أم غير المشكل حيث غلبت فيه علامات الذكورة أو الأنوثة، أم يُعتبر من
المشكل حيث لم تتبين فيه علامات الذكورة أو الأنوثة، فلا يعلم أهو رجل أو امرأة (الموسوعة
الفقهية الكويتية. 2006)، حيث لديه آلة الذكر وآلة الأنثى (موسوعة الإجماع في
الفقه الإسلامي. 2012)، أم هو شخص يحق له ما
يحق للبشر من حقوق، وعليه ما عليهم من واجبات لأنه يفكر مثل الإنسان بل
أحيانا أذكى من الإنسان؟
فهذان المسألتان وغيرهما من المسائل المستجدة الكثيرة تطرح إشكاليات
ومخاطر تكاد تعصف بمستقبل البشرية عموماً، ومجتمعاتنا المسلمة خصوصاً، فهي مخاطر منذرة
بقرب الساعة، لأن بها تضيع الأمانة التي قبل الإنسان حملها، وتسلب حقوقه، ويختلط
الحابل بالنابل، فبضياع الأمانة تحل القيامة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا
ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ} (صحيح البخاري. باب رفع الأمانة).
وتأسيساً
على مجموع المعطيات الفائتة نجد أن الأخلاق في الإسلام مبادئ وقواعد منظمة للسلوك
الإنساني، تعتمد على أساسين:
الأول: يمكن
وصفه بأنه منهج قانوني في شكل نظام إلهي عظيم.
الثاني: فله
طابع عملي فقهي لهذا القانون الإلهي من خلال تطبيق الإنسان لهذه المبادئ التي هي
أساس بناء الحضارات التي لا تزول؛ وإن زالت حساً فهي باقية معنى وأثراً.
خاتمة
وفي
ختام هذا البحث الموجز، يود الباحث أن يضع بين أيديكم خلاصته، والثمرة المرجوة منه،
وتتلخص في أن للذكاء الإلكتروني أثره البارز في الفقه الإسلامي، وله فعله الخطير عن
طريق التلاعب الرقمي في تقمص الشخصية البشرية صوتاً وصورة عن طريق المحاكاة الاصطناعية،
وهنا يبرز أثرها على الخصوصية الشخصية، من حيث قدرة هذه التقنيات على خداع أنظمة التحقق
من الشخصية بنسبة 90% أو أكثر.
وينعكس
ذلك على الأمن القومي العالمي عامة، وعلى الدول الإسلامية خاصة، ومن هنا يوصي
الباحث بتكييف أحكام الفقه الإسلامي في كيفية التعامل مع هذه القرصنة
الالكترونية، كي يمكن إسقاط حد الحرابة أو السرقة على مرتكبيها، وأثر ذلك في الحد من
الجريمة، مع إسقاط الحكم الفقهي على الأفراد من حيث الحقوق والواجبات، وعلى المنظمات
والشركات التقنية التي تحتكر هذه الأعمال الالكترونية المستجدة.
كما
نرجوا الله التوفيق لإظهار هذا العمل بصورة جيدة، ليكون لبنة من لبنات النهوض
بالفقه الإسلامي، ليسهم في غرس بذرة تنمو وتترعرع عن طريق بحوث أخرى تسد خللها
وترتقي بها، لتشارك في نهضة الأمة الإسلامية فتواكب مستجدات العصر. والله أعلم
بالصواب.
المصادر
والمراجع الأولية
القرآن الكريم.
Ikuti saya!